.خطاب رئيس الجمهورية في الجمعية العامة للأمم المتحدة

٢٠ سبتمبر ٢٠٢٢ - Check against delivery

Download pdf

.خطاب رئيس الجمهورية في الجمعية العامة للأمم المتحدة

إيمانويل ماكرون

سيدي رئيس الجمعية العامة،

سيدتي الأمينة العامة المساعدة للأمم المتحدة،

سيداتي وسادتي رؤساء الدول والحكومات،

سيداتي وسادتي الوزراء،

سيداتي وسادتي السفراء،

 

يشرفني أن ألقي كلمةً أمام هذه الجمعية لإبراز مواقف فرنسا. وأفكّر في هذه اللحظة بجميع الذين كافحوا وناضلوا في بلدي وفي سائر بلدان العالم من أجل حرية فرنسا. وأفكّر كذلك بالذين اعتبروا في حقبات أخرى أنّ مصير أوروبا يعنيهم، بصرف النظر إذا كانوا من أفريقيا أو آسيا أو أوقيانوسيا أو أمريكا، لأنّ جزءً من حريتهم ومستقبل العالم كان حينها على المحك. وأفكّر بالذين صاغوا ميثاق الأمم المتحدة وشيّدوا جدران هذه المنظمة من أجل تجنّب أوزار مريرة سجلها القرن العشرين مرتين، وجلبت على الإنسانية أحزاناً يعجز عنها الوصف.

 

ولا يجب أن ننسى هذا الدين قط، فهو يخدم مصالح بلداننا كافة ويبلور لنا السبيل إلى إرساء السلام. ويذكّرنا أنّ مركز القوة الشرعي والمستدام الوحيد يكمن فيما تقرره الأمم على نحو سيادي بالاتحاد فيما بينها. ويخبرنا أنّ الطابع العالمي الذي تتميز به منظمتنا لا يخضع لأي هيمنة، ولا لأي أوليغارشية جغرافية سياسية. إلا أنّ هذ الإرث ومنظمتنا، حالهما حال خياراتنا بوصفنا أمم، يضعنا أمام خيارات في المرحلة الراهنة.

 

ويجب علينا اليوم أن نختار بصورة بسيطة بين ما يتجسد في الجوهر في الاختيار بين الحرب والسلم. واستباحت روسيا، التي تعد عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، أمننا الجماعي في 24 شباط/فبراير المنصرم بارتكابها عملًا عدوانيًا وبغزو أراضي وبضمها. وتعمدت انتهاك ميثاق الأمم المتحدة ومبدأ مساواة الدول في السيادة. وأعلنت محكمة العدل الدولية منذ 16 آذار/مارس أنّ الاعتداء الروسي غير شرعي وطالبت روسيا بالانسحاب. وقررت روسيا بذلك تمهيد الطريق للمزيد من الحروب الرامية إلى ضم أراضٍ، حروب تشن اليوم في أوروبا ولكن قد تشن في المستقبل في آسيا أو في أفريقيا أو في أمريكا اللاتينية.

 

وتستطيع جميع الجهات التعبير عن أفكارها وآرائها في هذا الشأن اليوم، وأتابع عددًا من النقاشات واستمعت إلى عدة خطابات. بيد أنّ ما هو أكيد ومؤكد، في اللحظة الراهنة التي أخاطبكم فيها، يتمثل في وجود قوات روسية في أوكرانيا، ولا توجد، على حد علمي، قوات أوكرانية في روسيا، وهو أمر واقع يجب علينا الاعتراف به جميعًا. وسيتعاظم تهديد هذه الحرب السلام في أوروبا وفي العالم أجمع، كلما طال أمدها. وستفضي بنا هذه الحرب إلى توسّع رقعة الصراعات على نحو دائم، وإلى واقع لم تعد تتوقف فيه سيادة كل دولة أو أمنها إلا على موازين القوى وحجم جيوشها ومتانة تحالفاتها ونوايا الجماعات المسلحة والميليشيات فحسب. وسيسعى في هذا السياق كل من يعد نفسه قويًا إلى الاحتكام لكل ما تيسر له من وسائل من أجل إخضاع من يستضعفهم.

 

وتسجل الأحداث الجارية منذ 24 شباط/فبراير المنصرم العودة إلى حقبة الامبرياليات والمستعمرات. وترفض فرنسا ذلك وستسعى بكل إصرار إلى إرساء السلام. ويتجلى موقفنا في هذا الشأن بكل وضوح، وهو ما دأبنا على تحقيقه ونتحمل مسؤوليته من خلال الحوار الذي استهللناه مع روسيا قبل اندلاع الحرب، وخلال الأشهر المنصرمة، ولن أرتدع عن ذلك لأنّه السبيل الوحيد الذي سيفضي إلى تحقيقنا السلام معًا، والسعي إلى إرساء السلام من خلال المبادرات التي اتخذت في السنوات وفي الأشهر التي سبقت نشوب النزاع بغية تفاديه.

 

وتتجسد مساعينا إلى إرساء السلام منذ 24 شباط/فبراير في الدعم الإنساني والاقتصادي والعسكري الذي نقدمه للشعب الأوكراني ليمارس حقه المشروع في الدفاع عن نفسه وصون حريته، وفي إدانتنا لغزو دولة سيادية وانتهاك مبادئ أمننا الجماعي، وجرائم الحرب التي ترتكبها روسيا في الأراضي الأوكرانية، وفي رفضنا للإفلات من العقاب. ويجب أن تدرج العدالة الدولية هذه الأفعال بوصفها جرائم ومحاكمة المسؤولين عنها.

 

وتتمثل مساعينا إلى إرساء السلام أخيرًا في رغبتنا في كبح توسع نطاق الحرب جغرافيًا واحتواء شدتها. ويتعين علينا في هذا الصدد دعم الجهود التي تبذلها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بغية كبح عواقب الحرب من التأثير في الأمن والسلامة النوويين، وهو ما سنضطلع به مع الأوكرانيين، فلا جدل في سيادتها على محطاتها. وتمكّننا من أن ترسل بعثة تابعة للوكالة إلى أرض الواقع وتعد تقريرًا بصورة مستقلة. ونعمل معًا على درء خطر وقوع حادث ستكون عواقبه وخيمة.

 

ويدرك جميعنا في هذا المحفل أنّ إمكانية إرساء السلام تنحصر في إبرام اتفاق يحترم القانون الدولي. وسيتعسر استهلال مفاوضات إلا إذا رغبت أوكرانيا في ذلك على نحو سيادي ووافقت عليها روسيا بحسن نية. ويدرك جميعنا في هذا المحفل أنّ المفاوضات لن تثمر إلا في حال احترام سيادة أوكرانيا وحُررت أراضيها وتمت حماية أمنها. وبات يجب أن تدرك روسيا أنّها ستعجز عن فرض رغباتها بالوسائل العسكرية، حتى لو دفعت باستخفاف إلى إجراء استفتاءات وهمية في أراض تعرضت للقصف وأمست محتلة. ويتعين على أعضاء مجلس الأمن الاعتراف بذلك بما لا لبس فيه وعلى أعضاء هذه الجمعية دعم مساعينا في سبيل إرساء السلام.

 

وأدعو من هذا المنبر أعضاء الأمم المتحدة إلى العمل لتتراجع روسيا عن خيار الحرب، ولتراعي الكلفة التي تتأتى عنها وتتكبدها هي وسائر البلدان ولتنهي عدوانها. ولا يتمثل الأمر الراهن في الاختيار بين معسكر الشرق أو الغرب، ولا الشمال أو الجنوب، بل في تحمّل جميع الذين يحرصون على احترام ميثاق الأمم المتحدة مسؤولية صون أثمن ما نملكه، ألا وهو السلام، إذ يتعرض العالم لخطر يتجاوز الحرب ويتمثل في الانقسام بفعل العواقب المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن النزاع.

 

وأدرك أنّ عددًا كبيرًا من الحاضرين في هذه الجمعية يعانون من الاجحاف في التصدي للعواقب في مجالي الطاقة والغذاء والتداعيات الاقتصادية المأسوية الناجمة عن الحرب التي تخوضها روسيا. وأعلم أنّ بعض البلدان الممثلة في هذا المحفل اتخذت موقفًا محايدًا من هذه الحرب، ولكن أود أن أقول لكم بكل وضوح أنّه يخطئ كل من يرغب في الإيماء إلى محاكاة حركة عدم الانحياز ويتحمل مسؤولية تاريخية في هذا الصدد، لأنّ حركة عدم الانحياز كانت تكافح من أجل إرساء السلام. وكان يرمي كفاحها إلى النضال من أجل سيادة الدول وصون سلامة أراضيها، وهو الهدف الذي سعت إلى تحقيقه. أما من يلتزمون الصمت اليوم، فيخدمون بغير وعي قضية امبريالية جديدة أو يتواطؤون معها سرًا، ويخدمون استخفاف معاصر يفكك نظامنا الدولي الذي يتعذر إرساء السلام لولاه.

 

وتسعى روسيا اليوم إلى إرساخ مبدأ الكيل بمكيالين، غير أنّه لا يجب أن يعرض أحد عن النزاع المتمثل في الحرب في أوكرانيا، فالحرب قريبة بالنسبة للأوربيين الذين اختاروا دعم أوكرانيا بلا خوض حرب مع روسيا. ومع أنّها تبعد عن عدد كبير منكم، فنعاني جميعنا من عواقبها المباشرة ونضطلع جميعنا بمسؤولية في إنهائها لأننا نتكبد ثمنها جميعًا.

 

وتسعى روسيا اليوم إلى إرساخ مبدأ الكيل بمكيالين، غير أنّه لا يجب أن يعرض أحد عن النزاع المتمثل في الحرب في أوكرانيا، فالحرب قريبة بالنسبة للأوربيين الذين اختاروا دعم أوكرانيا بلا خوض حرب مع روسيا. ومع أنّها تبعد عن عدد كبير منكم، فنعاني جميعنا من عواقبها المباشرة ونضطلع جميعنا بمسؤولية في إنهائها لأننا نتكبد ثمنها جميعًا. وتهتز هذه الأسس عينها إذ تدوس الحرب التي شنتها روسيا على المبادئ التي تندرج في صميم منظمتنا، ومبادئ النظام الدولي المتوفر الوحيد الذي من شأنه ضمان السلام، أي احترام السيادة الوطنية وعدم انتهاك حرمة الحدود.

 

ويتعين علينا التمييز بما لا لبس فيه في هذا الصدد بين الأسباب والتبعات، فمن من بين الحاضرين يمكنه أن يدافع عن فكرة أن غزو أوكرانيا لا يبرر فرض جزاءات؟ ومن من بين الحاضرين يمكنه اعتبار صمت المنطقة والعالم أفضل الحلول في حال تصرف بلدًا مجاورًا أقوى على نحو مماثل؟ ومن يستطيع تأييد ذلك؟ ومن يمكنه الاعتقاد أنّه ما على روسيا إلا الانتصار في هذه الحرب لنتجاوز ذلك ونمضي قدمًا؟ لا أحد. وليست الامباريالية المعاصرة امبرياليةً أوروبيةً ولا غربية، بل تتمثل في غزو إقليمي تدعمه حرب هجينة معولمة تستخدم أسعار الطاقة والأمن الغذائي والسلامة النووية والحصول على المعلومات وتحركات السكان كأسلحة بغية التقسيم والتدمير. وتمس هذه الحرب سيادتنا جميعًا وتعرضها للخطر على هذا النحو.

 

وستتآزر فرنسا مع شعوب الأمم المتحدة الحرة في التصدي لتبعات النزاع وكذلك انعدام المساواة الذي يفاقمه من خلال تحدي منطق الكتل أو التحالفات الحصرية، لأنّ الخطر الذي نواجهه في المرحلة الراهنة يتجاوز عواقب الحرب المباشرة، ويشمل تقسيمًا جديدًا للعالم. يدفعنا البعض إلى الاعتقاد أنّ العالم ينقسم إلى ضفتين، ضفة الغرب الذي يدافع عن قيم صارت بالية خدمةً لمصالحه من جهة، وسائر العالم الذي عانى أشد المعاناة ويسعى إلى التعاون من خلال دعم هذه الحرب أو غض الطرف عنها من جهة أخرى. وأرفض هذا التقسيم للسببين.

 

ويتمثل الأول من حيث المبدأ، مثلما استعرضت للتو، في دفاع منظمتنا عن قيم عالمية، لذلك دعونا دحض الفكرة الكامنة القائلة بأنّ القيم التي يشملها الميثاق إقليمية الطابع وأنّه يمكن تكييفها. وتقوم منظمتنا على قيم عالمية بالفعل ويتجسد الانقسام بشأن الحرب في أوكرانيا ببساطة فيما إذا كنا نؤيد مبادئ حكم الأقوى وعدم احترام سلامة أراضي البلدان الأخرى وسيادتها الوطنية أو نعارضها. وهل تؤيدون الإفلات من العقاب أو تعارضوه؟ ولا أستطيع أن أتصور أي نظام دولي أو سلام دائم لا يستند إلى احترام الشعوب ومبدأ المسؤولية. إذن نعم، تتصف قيمنا بالعالمية ولذلك لا يجب أن تخدم قط مصالح قوة تنتهك هذه المبادئ. وأخطأنا في السنوات الأخيرة عندما ابتعدنا قليلًا عن هذه القيم، غير أنّ ذلك لا يبرر الاستخفاف بكل ما بنيناه معًا بعد الحرب العالمية الثانية.


وعندما أسمع إلى أنّ روسيا تستعد للعمل على إقامة أوجه تعاون جديدة وإنشاء نظام دولي جديد، بلا هيمنة، فلنغض الطرف، فعلى أي مبادئ سترتكز؟ على غزو البلدان المجاورة؟ على عدم احترام حدود البلدان التي نختلف معها؟ وما هو ذلك النظام المهيمن اليوم إن لم يكن روسيا؟ وما الاقتراحات التي تقدم إلينا في المرحلة الراهنة؟ وبماذا يسعون إلى إقناعنا؟ وما هو الهدف الوهمي الذي يطلبون من ذوي النية الحسنة تصديقه؟ لن تصمد الحجج الواهية مطولًا. دعونا لا نستسلم للاستخفاف الذي يفكك النظام الذي تأسننا عليه وصان الاستقرار الدولي لأن قيمنا هذه، المتمثلة في احترام السيادة الوطنية وسلامة الحدود، وأقول، أننا اخطأنا في كل مرة ابتعدنا عنها، لكن هذه هي القيم التي بنيناها بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الاستعمار. ولا داعي للتلعثم في سرد التاريخ بحجة أنّ الأحداث الراهنة تقع في أراضٍ بعيدة، إذ لا يجب أن نرضخ.

 

أما السبب الثاني لاعتراضي على محاولة تقسيم العالم هذه، فهو سبب واقعي. وتكمن بالفعل في الانقسامات الناشئة محاولة لتقسيم العالم على نحو يعزز التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وهو ما يمثل بالنسبة لي خطأ فادحًا يؤثر فينا جميعًا لأنه لن يكون حربًا باردة جديدة. وتستغل قوى مزعزعة للاستقرار ومعززة لاختلال التوازنات هذه الفترة الراهنة سعيًا إلى مضاعفة النزاعات الإقليمية واستئناف الانتشار النووي ودهورة الأمن الجماعي. وأعتقد أنّه علينا بذل كل ما تيسر لنا من جهود بغية تفادي هذا الانقسام الجديد، لأنّ التحديات التي علينا مواجهتها تتكاثر وتزداد إلحاحًا وتتطلب إقامة أوجه تعاون جديدة.

 

ولنأخذ مثال باكستان التي غطت الفيضانات ثلث مساحتها وبلغ عدد الضحايا فيها ما يربو عن 1400 قتيل و1300 جريح ويعاني فيها ملايين الأشخاص من حالات حرجة. ولنأخذ مثال القرن الأفريقي الذي سجل أسوأ ظاهرة جفاف منذ 40 عامًا والذي بلا شك سيعرف موسم أمطار أسوأ. وتعيش اليوم نصف البشرية في دائرة الخطر المناخي وبلغت نظمنا البيئية نقطة اللاعودة. ولنأخذ مثال الصومال واليمن وجنوب السودان وأفغانستان حيث عادت المجاعة. وتؤثر الأزمة الغذائية بالفئات الأكثر ضعًفا أشد التأثير وفي كل مكان، ويعاني 345 مليون شخص في العالم من الجوع الحاد ومن ضمنهم 153 مليون طفل. وتنتشر 55 حربًا أهليةً حاليًا في كوكبنا ونزح 100 مليون شخص. وبينما لم يبلغ عدد الأشخاص الذين لم يدخلوا دائرة الفقر المدقع 137000 شخص في الفترة بين 1990 و2015، فمن المحتمل أن يعاني 345 مليون شخص منها بحلول العام 2030 في البلدان الأكثر تضررًا من النزاعات.

 

ودائمًا ما تكون الفئات الأكثر ضعفًا أشد تأثرًا بالأزمات واضطراب المناخ والأوبئة وارتفاع أسعار السلع الغذائية. وتلوح التهديدات دائمًا في الأفق وعلاوةً على ذلك، يعصف الإرهاب، من بين أمور أخرى، بمنطقتي الساحل والشرق الأوسط، وتنتشر الأسلحة النووية في إيران وفي كوريا الشمالية، وهذه جميعها تهديدات لم ننجح في التصدي لها. تلك هي المسائل الطارئة التي ينبغي علينا إيجاد حل لها، ضف على ذلك أنني لم أذكر جميع المسائل الطارئة، ولكنّها دائمًا ما تكون سواءٌ نتيجة للإخفاقات العميقة لنظامنا الدولي، الذي واكب منافع العولمة ولكنه لم يتمكن من وضع حد لانشقاقاتها وتهديداتها واختلالاتها، أو نتيجة للانقسام في صفوفنا.

 

وتتمثل مسؤوليتنا المشتركة بالأحرى في السعي إلى مساعدة الفئات الأكثر ضعفًا والأكثر تضررًا في التصدي إلى كل هذه التحديات. وكان رئيس الحكومة الهندي، السيد نارندا مودي على حق عندما قال إن عصر الحروب قد ولّى، وليس الأوان للانتقام من الغرب ولا معارضة الغرب للبلدان الباقية. وحان الوقت لأن تهب بلداننا ذات السيادة والمتساوية إلى مواجهة التحديات المعاصرة. ويتطلب منا ذلك بإلحاح أن نبرم عقدًا جديدًا بين بلدان الشمال والجنوب، يتسم بالفعالية ويراعي قضايا الغذاء والمناخ والتنوع البيولوجي والتعليم. ولم يعد الوقت مناسبًا لمنطق التكتلات، بل لإقامة تحالفات تقوم على الإجراءات فعلية تفضي إلى التوفيق بين المصالح المشروعة والمنفعة العامة.

 

وضاعفت فرنسا بالفعل تمويلها لبرنامج الأغذية العالمي من أجل مكافحة أزمة الغذاء العالمية. وبنينا مع الاتحاد الأوروبي "الطرق البديلة التضامنية" التي أتاحت إجلاء ما يزيد عن 10 مليون طن من الحبوب من خلال النقل البري منذ الربيع الماضي. واستُكمل ذلك بنجاعة من خلال الاتفاق الذي أبرم في 22 تموز/ يوليو الماضي والذي أصبح ممكنًا بفضل جهود الأمين العام للأمم المتحدة والذي أتاح إجلاء 2،4 مليون طن عن طريق البحر الأسود ولا يزال مستمرًا. واستهلينا مبادرة تعزيز القدرة على الصمود في مجالي الغذاء والزراعة التي تتيح تزويد البلدان الضعيفة بالغذاء بأسعار منخفضة بدون شروط سياسية والاستثمار في الإنتاج الزراعي في البلدان الراغبة في التحرر من التبعية.

 

وأعلمكم كذلك أن فرنسا ستمول عملية إجلاء القمح الأوكراني ونقله إلى الصومال بالتعاون مع الشراكة العالمية من أجل الغذاء.  وسنضطلع بذلك بتضامن وفعالية وبحرص على الشفافية الكاملة.

 

وسنعقد اجتماعًا غدًا يضم كل من الاتحاد الأفريقي ووكالات الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والمصارف الإنمائية والمفوضية الأوروبية من أجل بناء آلية مستدامة تمكن أفريقيا من الحصول على الأسمدة، ذلك استكمالًا لمبادرات الأمين العام للأمم المتحدة في هذا الشأن.

 

وسنلتقي في مصر بعد بضعة أسابيع في الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف من أجل تناول المسائل المتعلقة بالمناخ والتنوع البيولوجي. ولنكن واضحين بشأن ما يعنيه الانتقال المنصف في مجال الطاقة. وتتمثل المعركة الأساسية التي تجمعنا في التوقف عن استخدام الفحم. وينبغي ألا تشتتنا الأزمة عن هدفنا. وإن لم ننجح في ذلك، فستتجاوز نسبة الاحترار درجتين مئويتين متخطيةً بذلك كل التوقعات. وإني جاهز للاستثمار في تحالفات تمويل الانتقال المنصف في مجال الطاقة (Just Energy Transition) كما سبق وفعلنا مع جنوب أفريقيا قبل بضعة أشهر. وينبغي لنا أن نواظب عملنا بناءً على هذا المنطق.

 

ولكن ينبغي للصين والبلدان الناشئة الكبرى أن تتخذ قرارًا واضحًا في مؤتمر الأطراف، وإنه لأمر ملح. وينبغي أن نبني مع البلدان الناشئة الكبرى تحالفات في هذا المجال تجمع الجهات الفاعلة بالمؤسسات المالية الدولية الأساسية بغية استنباط حلول شاملة في مجالي إنتاج الطاقة وتغيير نهج الإنتاج الصناعي، وهو ما سيتيح تحقيق الانتقال.

 

وبالتالي، ينبغي أن تمثل مجموعة الدول السبع مثالاً يُقتضى به. وينبغي للبلدان الأغنى أن تسرّع وتيرة البرامج الرامية إلى تحييد أثر انبعاثات الكربون وأن تبذل جهودًا من أجل خفض الانبعاثات ومشاركة التكنولوجيا المراعية للبيئة. وتدركون أنكم تستطيعون الاعتماد على الاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص. وأعتقد أيضًا أنّه ينبغي لنا الاعتراف بالصعوبات التي تواجهها البلدان الأكثر فقرًا في محاربة الفقر المدقع بالتزامن مع تسريع وتيرة الانتقال في الوقت ذاته. ولا يمكننا أن نطلب الأمر عينه من أفريقيا جنوب الصحراء، التي لا يزال يفتقر فيها 600 مليون شخص إلى التيار الكهربائي، ولا من البلدان الأكثر تسببًا بالانبعاثات الكربونية. ولهذا السبب يتعيّن على البلدان الأغنى أن ترسخ تضامنها المالي والتكنولوجي في مجال المناخ من أجل البلدان الأكثر فقرًا. وينبغي لنا كذلك تقديم التمويل وإيجاد الحلول وتسريع وتيرة هذه الخطة، كما فعلنا خلال فترة الجائحة، ولكن على نحو أقوى وأنجع وأكثر حزمًا.

 

ويجب علينا أيضًا في هذا السياق أن نحمي معًا مصارف الكربون وكنوز التنوع البيولوجي. وسيستضيف كل من فرنسا وكوستاريكا مؤتمر الأمم المتحدة المعني بشؤون المحيطات في عام 2025، فلنجعلها الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف بشأن المحيطات.

 

أما بشأن مجال الصحة، فعلينا أن نستخلص العبر من جائحة كورونا. وينبغي لنا في هذا الصدد أن نقرّ بأن خط دفاعنا الأول يقوم على الأنظمة الصحية والعاملين في المجال الصحي في البلدان الأكثر هشاشةً. وسأشدد على هذه النقطة البالغة الأهمية أثناء تجديد موارد الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، الذي ستبقى فرنسا من أكبر المساهمين فيه. ويجب أن نحرص على وضع منظمة الصحة العالمية أنظمة الإنذار المبكر التي نحتاج إليها من أجل منع تفشي فيروسات أخرى، وعلينا أن نتناول معًا مسألة الصحة الإنسانية والحيوانية، وهو ما تسعى إلى تحقيقه مبادرة "الصحة الواحدة" التي استهلتها فرنسا مع العديد من الجهات الفاعلة الأخرى.

 

ولنستمر في بذل جهودنا، كما وفعلنا في الشراكة العالمية من أجل التعليم، لكي يعود الأطفال إلى المدرسة بعد أن حُرموا منها في فترة الجائحة. ويجب أن نكافح مصدر أوجه انعدام المساواة ونعمل من أجل المستقبل الذي يجمعنا.

 

وتتطلب مواجهة هذه المواضيع، كما ترون، العمل على تكثيف التعاون وبناء شراكات بين الجهات الفاعلة بين الغرب والجنوب من جهة وبين الشمال والجنوب من جهة أخرى. ويتمثل ذلك في تعزيز التزاماتنا في مؤسساتنا الرئيسة. ويعارض كل ما ذكرته الانقسام الذي يرغب الآخرون في تحقيقه. ومن كان حاضرًا في فترة الجائحة؟ ومن الذي يقترح الآن تمويل التصدي لتغير المناخ؟ فهو ليس من يطرح اليوم نظامًا دوليًا جديدًا وليس من لم يكن لديه لقاحًا فعالًا وليس من أبدى تضامنًا محدودًا مع الآخرين ولا يشارك في الجهود الرامية إلى التصدي لتغير المناخ.

 

ويفرض علينا التصدي لجميع هذه التحديات، التي نتشارك في مواجهتها، تعزيز تضامننا وتعاوننا، وألا نستسلم في أي حال من الأحول لحجج الواهية. ومن أجل تحقيق مبتغانا، ينبغي لنا أن نكون واقعيين فيما يتعلق بوضع البلدان الأكثر فقرًا والبلدان المتوسطة الدخل، سواء كانت في أفريقيا أو في قارة أمريكا الجنوبية أو في آسيا أو في المحيط الهادئ. فقد وسعت الجائحة هوة انعدام المساواة والآن تتفاقم الصعوبات التي تواجهها هذه البلدان بسبب الحرب وتداعياتها. ولا مفر لمجموعة الدول السبع أن تفي بالهدف الذي حددته لنفسها العام الماضي، ألا وهو حشد 100 مليار دولار من خلال حقوق السحب الخاصة.

 

ولكن علينا بذل المزيد من الجهود وتوسيع نطاقها. وبدايةً، علينا أن نفي بوعدنا فيما يتعلّق بإصدار صندوق النقد الدولي حقوق السحب الخاصة. ولم ينَل العديد من البلدان، ولا سيّما في أفريقيا، ذلك التمويل بعد، ولن نستطيع بعد الآن أن نتحجج بالعرقلة التي تتسبب بها إحدى البرلمانات أو القوانين، فهذا غير مقبول! وإلا سنبلغ مقاصدنا بعد فوات الأوان. وعلينا أن نكثّف جهودنا لأن الصعوبات جمة. وينبغي لذلك أن نرفع سقف حقوق السحب الخاصة إلى 30 بالمائة لمصلحة البلدان الأفريقية الأكثر عرضةً للخطر والبلدان الأكثر فقرًا في جميع أنحاء العالم.

 

وينبغي أن نكيّف تدابيرنا مع السياق الحالي ونفعلها بمعية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ وضعت القواعد التي نطبقها اليوم في الثمانينات. وتحثنا حالة العالم بعد جائحة كورونا وتسارع وتيرة الاختلال المناخي وانهيار التنوع البيولوجي والاختلالات التي خلفتها الحرب، على تعزيز التضامن فيما بيننا، فإننا بحاجة لإبرام اتفاق مالي مع بلدان الجنوب. ويمثل كل ما سبق خط المواجهة الحقيقي الذي يجب أن يوحدنا من أجل الكوكب الذي نسكنه جميعًا ومن أجل تكافؤ الفرص على الصعيد الإنساني وليس من أجل مواجهة عدو مشترك ولا حتى من أجل دحض السرد الخاطئ أو تحريف التاريخ.

 

تتمثل معركتنا في كل ما سبق، وهي المعركة التي توحدنّا جميعًا. وتطلب منّا، ببساطة، أن نبذل المزيد من الجهود وأن نلتزم باتفاقاتنا وأن نتصرف بحزم وباحترام فيما بيننا. ولكن إن لم نستطع أن نقود هذه المعركة، التي هي المعركة الحقيقية، سويًا، فستصبح مصدر كل الانشقاقات والنزاعات المقبلة. وأدعو لذلك جميع من يرغبون في بناء هذا العقد الجديد، أن يحضروا إلى منتدى باريس للسلام الذي سيعقد في 11 تشرين الثاني /نوفمبر المقبل من أجل التحضير لقمة الدول العشرين في بالي والتقدم سويًا بلا التخلي عن القيم التي تجمعنا والمبادئ التي ترشدنا.

 

ويتمثل جوهر القضية في ألا نستسلم لتجزئة العالم وتعاظم تهديدات السلام، ولنسعى إلى كبح تفاقم الأزمات والحد من تكاثر النزاعات بلا تقديم حلول لها ومن انتشار أسلحة الدمار الشامل، إذ يمثل جميعها مخاطر لا يمكننا السيطرة عليها في المستقبل بدون إشراك القوى الإقليمية المعنية مباشرةً. وهذا هو تحديدًا العمل المشترك بين القوى الإقليمية الذي نريد نضطلع به في الشرق الأوسط من خلال ضمان متابعة مؤتمر بغداد الذي عقدناه في عام 2021 من أجل استقرار العراق ولبنان والمنطقة بأسرها.

 

ولم يعد ينحصر اتخاذ القرارات في أعضاء مجموعة البلدان الخمسة، بل صار يشمل بلدان أخرى، التي إن عبّرت عن رأيها، وقد فعلت ذلك بالتأكيد، فلن ننجح ببلوغ مقاصدنا ما لم نكن قادرين على العمل على نطاق أوسع من أجل توافق الآراء الدولي الضروري لإحلال السلام. وأتمنى لذلك أن نشرع أخيرًا في إصلاح مجلس الأمن من أجل أن يتسع نطاق التمثيل فيه ليشمل أعضاء دائمين جدد ويبقى قادرًا على تأدية دوره الكامل من خلال الحد من حق النقض في حال ارتكاب الجرائم الجماعية. ونحن نحتاج لأن نبني معًا السلام والنظام الدولي المعاصر من أجل خدمة أهداف ميثاق الأمم المتحدة. وتستطيع الأمم المتحدة أن تعتمد بدون أدنى شك على فرنسا في هذا السبيل، بل تستطيع جميع البلدان الحاضرة اليوم أن تعتمد بدون أدنى شك على فرنسا كذلك.

 

وشكرًا.